Loading...
رئيس مجلس الإدارة
د.حاتم صادق

المصرى اون لاينبوابة خبرية متخصصة

رئيس التحرير
قدري الحجار

التداول الوهمي... فخ الاحتيال الإلكتروني الذي يطارد مدخرات المصريين بالخارج
دكتور باسل نعمان

دكتور باسل نعمان


بقلم د. باسل نعمان 
باحث اقتصادي 

خلال العامين الأخيرين، تصاعدت شكاوى المصريين بالخارج من خسائر فادحة طالت مئات الآلاف من الدولارات في ما يُعرف بظاهرة التداول الوهمي، وهي موجة احتيال رقمية تتخفّى وراء واجهات لامعة ومنصات براقة تعد المستثمرين بعوائد خيالية في زمن قياسي. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وجدت هذه الشركات بيئة مثالية لترويج أوهامها، مستهدفة فئة المغتربين الباحثين عن فرص استثمارية تضمن لهم مستقبلًا أفضل، لكنها في الحقيقة تنصب شِراكًا تنتهي بخسارة كل ما جمعوه من تعب السنين.

إن مواجهة هذه الظاهرة لا تكتمل بمجرد رصدها أو التحذير منها، بل تحتاج إلى رؤية شاملة تتداخل فيها أدوار الأفراد، والدولة، والمؤسسات المالية والإعلامية على حد سواء. فالمعركة ليست فقط ضد المحتالين، بل ضد الجهل المالي وضعف الثقافة الاستثمارية، وضد الإغراء الزائف الذي يقدمه العالم الافتراضي دون ضوابط أو مسؤولية.

البداية دائمًا من الإنسان نفسه. فالمعرفة المالية لم تعد رفاهية، بل صارت درع الوقاية الأولى في زمن تتقاطع فيه التكنولوجيا مع المال. على كل مستثمر أن يدرك أن الأرباح السريعة ليست مؤشر نجاح، بل علامة خطر، وأن أي منصة تعد بعائد غير واقعي تستحق التدقيق لا التصديق. والتحقق من أن الشركة تخضع لرقابة رسمية في مصر أو في دولة الإقامة خطوة لا تقل أهمية عن مراجعة ترخيصها في السجلات المعترف بها. كما أن الاطلاع على تجارب المستثمرين السابقين، واستشارة خبير مالي مستقل قبل اتخاذ أي قرار، كفيلان بتقليل فرص الوقوع في فخ الاحتيال.

ولا يقل وعي الأفراد أهمية عن مسؤولية الدولة وأجهزتها الرقابية. فالدولة مطالبة اليوم بتدشين قاعدة بيانات إلكترونية رسمية تتيح للمصريين بالخارج التحقق بسهولة من تراخيص شركات الوساطة والتداول، بما يضمن الشفافية ويمنع استغلال الثقة. كما يمكن للسفارات والقنصليات المصرية أن تلعب دورًا فعالًا في التوعية عبر ندوات وحملات تثقيفية تشرح أحدث أساليب الاحتيال المالي وطرق الوقاية منها. وإلى جانب ذلك، لا بد من تشديد الرقابة على الإعلانات الممولة التي تغزو الإنترنت، والتنسيق مع المنصات العالمية لإغلاق الحسابات والصفحات المشبوهة التي تستهدف المصريين بالخارج بطرق خادعة.

التشريعات المالية بدورها تحتاج إلى تطوير مستمر لملاحقة التطور التقني السريع الذي يستغله المحتالون. فإقرار قوانين صارمة تجرّم الترويج للأنشطة الاستثمارية غير المرخصة، وتعزز التعاون الدولي بين الهيئات الرقابية في الدول المختلفة، أصبح ضرورة لا ترفًا. فالجريمة الاقتصادية لم تعد محلية، بل عابرة للحدود، ولا يمكن مواجهتها إلا بتبادل المعلومات بسرعة وكفاءة.

أما المؤسسات المالية والبنوك، فهي تملك مفتاح الحل العملي. إذ يمكنها أن تقدّم للمصريين بالخارج منتجات استثمارية آمنة ومبتكرة، تجمع بين العائد المجزي والضمان القانوني، لتكون البديل الحقيقي عن المنصات الوهمية. كما يمكنها مراقبة التحويلات المشبوهة بالتنسيق مع وحدات مكافحة غسل الأموال، وإرسال تحذيرات فورية للعملاء في حال وجود تعاملات غير طبيعية. ومن المهم أيضًا أن تصدر هذه المؤسسات تقارير دورية تنشر عبر مواقعها وصفحاتها الرسمية لتوعية الجمهور بأحدث أساليب النصب الإلكتروني وأشكاله المتجددة.

ولا يمكن إغفال الدور الحيوي للإعلام في هذه المواجهة. فالإعلام الاقتصادي المتخصص يشكل جسر الوعي بين المواطن والجهات الرسمية، ويساهم في كشف الحقائق قبل أن تتحول إلى كوارث مالية. فكل تقرير صحفي موثّق، وكل تحقيق استقصائي يفضح منصة مشبوهة، هو بمثابة إنذار مبكر ينقذ مدخرات المئات. ولهذا، فإن تكامل الجهود بين الإعلام، والهيئات الرقابية، والبنوك يمكن أن يخلق مظلة حماية متكاملة تحاصر الظاهرة من جذورها.

ومن المهم التأكيد على أن التحذير من التداول الوهمي لا يعني الانعزال عن الاستثمار الرقمي، بل توجيه هذا النشاط نحو القنوات المشروعة التي تخضع لرقابة البنك المركزي وهيئة الرقابة المالية، والتي تمثل البيئة الآمنة لتوظيف المدخرات في إطار قانوني منظم. فالعالم يتجه نحو الاقتصاد الرقمي، ومصر تمتلك القدرة على تطوير منصاتها الاستثمارية المحلية لتنافس بثقة وتمنح المصريين بالخارج خيارًا وطنيًا آمنًا.

كل أزمة تحمل في طياتها فرصة للإصلاح. ومعركة مواجهة التداول الوهمي قد تكون الشرارة التي تدفع نحو نشر الوعي المالي بين الأفراد، وتعزيز الدور الرقابي للمؤسسات، وبناء ثقافة استثمارية رشيدة في الداخل والخارج. فحين يجتمع الوعي مع التشريع ومع الثقة في المؤسسات، تتراجع فرص المحتالين، وتتحول مدخرات المصريين بالخارج من هدفٍ للنصب إلى طاقةٍ تنموية تعود بالنفع على الوطن والمواطن في آنٍ واحد.



تواصل معنا